جمعية الدراسات النسوية التنموية الفلسطينية
The Palestinian Development Women Studies Association
P.D.W.S.A
الخميس : 2024-04-25

ولدنا من جديد .. قصة نجاح لـ الفت بكرون

2018-04-02
ولدنا من جديد  قصة نجاح لـ الفت بكرون

غزّة/ جمعية الدراسات

القصف فوق رؤوسنا، كان كطائر الغراب ينعق بقرب نهايتنا، بهذه الكلمات بدأت " ألفت بكرون 35عامًا" من منطقة الشجاعية، حكايتها؛ ولم أكن أريد توقفها بل جعلتها تواصل حديثها عندما قالت "لم نعِ كيف وجدنا أنفسنا خارج المنزل! نعم تركنا بيتنا والخوف والرعب يسيطر علينا، ولم نكن نرتدي سوى ملابس الصلاة، حفاة الأقدام".

كانت الساعة السادسة صباحًا، خرجنا نركض في الشوارع تمامًا كهجرة عام 1948، الشهداء أمامنا، وتحت أقدامنا الدماء، لا يوجد مكان في الشارع فارغ، الشهداء والجرحى في كل مكان، لا يستطيع أحد الدخول لمساعدتهم، حالة من الاستياء العام الذي لا يستوعبه العقل البشري لحجم الويلات ليلة المجزرة، محاولة للنجاة بأرواحنا.

القصف فوق رؤوسنا كطائر الغراب ينعق بقرب نهايتنا، كانت الصواريخ تستهدف كل شيء يتحرك على الأرض، وكنا في حالة يرثى لها، نمسك أطفالنا بأيدينا ونركض على شهداء وأشلاء لم نستطعْ فعل شيء، هل ننتبه على الأطفال الذين بحوزتنا أم ننتبه على الأرض كي لا تدوس أقدامنا على جثث وأشلاء الشهداء؟!!

شعور مؤلم، أن نرى أبناء شعبنا مضرجين بدمائهم على الأرض ونحن لا نستطيع أن نحفظ لهم كرامتهم وحقهم بموتهم، لا نستطيع انتشالهم أيضًا، ما إن وصلنا إلى أول الشارع وإذ بالطائرات تقصف منزلنا، فدمرته تدميرًا كاملًا عن بكرة أبيه، أن يهدم تعب عمرك، وذكرياتك أمام عينك صدمة، لا يستطيع أحد في العالم تحملها..

كنت أقف بعيدة عن منزلي عدة أمتار، أراه يسقط أمام عيني فيتحول إلى مجرد ركام من الحجارة على الأرض، ذكرياتي كلها في هذا المنزل تسقط كورقة خفيفة جدًا، تخاف أن يرتطم رأسها بجبين أبي الذي بناه حجرًا حجرا..

"اللحظات السعيدة والحزينة، كل شيء في منزلنا تم تدميره"، كلمات الشكر والحمد التي رددت بها  بكرون لخروجهم جميعًا سالمين رغم خسارتهم حالهم ومالهم الذي كان يكمن في ذاك البيت الصغير مواصلة سرد حكايتها "لم نكن نتوقع أننا سنبقى على قيد الحياة، رأينا الموت بأعيننا، حاولنا فقط إنقاذ أطفالنا لم نكن نهتم لأرواحنا"..

وأردفت:" الجحيم الذي كنّا نهرب منه كبير جدًا، حتى عندما يقع طفل من أيدينا لنقف لدقيقة أو ثانية لنرفعه عن الأرض ونعيده ليركض مرة أخرى، كأننا كنّا نرمي بأرواحنا تحت الصواريخ، هذه اللحظة التي نتوقف فيها عن الركوض هي أطول لحظه قد تحياها في حياتك، تمر عليك كل سنين عمرك كشريط سينمائي سريع ينتهي بمشهد ترى نفسك فيه جثة هامدة على الأرض، قد تكون مقطع إلى أشلاء".

ركضنا من الشجاعية حتى وصلنا إلى شارع الثلاثيني في غزة، أن نركض كل تلك المسافة شيء خيالي، فهي ليست بالهينة أو القصيرة، والموت أقرب إليك من رموش عينيك، وصلنا إلى منزل عمتي وجلسنا عدة أيام والطائرات لم تغادر سماء قطاع غزة، الصواريخ تصل إلى كل مكان في القطاع.

محيط منزل عمتي كان ساحة لمعركة أخرى ولم يكن في الساحة سوي مقاتل ومهاجم واحد؛ هي فقط الطائرات التي تحدد أهدافها وتختارها بعناية فائقة، كل صاروخ يسقط منها كان يحصد عشرات الأرواح معه.

 شعورنا بالأمان كان معدوم سواء في بيتنا أو عندما نزحنا، في أي لحظة قد تسقط إحدى تلك القذائف والصواريخ على منزل عمتي و تقتلنا جميعًا، تركنا المنزل ولجأنا إلى مستشفى الشفاء جلسنا، هناك لم نكن نسمع سوى صوت صفارات سيارات الإسعاف ودوي الانفجارات، بتنا نشاهد أفلام خيالية تظهر بها جثث مقطعة إلى أشلاء بدون رؤوس، شاهدنا كل هذا بث حي ومباشر، كانت أعداد الشهداء مهولة، لا يوجد متسع في ثلاجات الموتى لتستوعب هذا الكم من جثث الشهداء المكدسة على الأرض وأخرى محفوظة في الثلاجات المخصصة لحفظ الخضروات.

كنا نرى أمهات وبنات وزوجات وأخوات الشهداء يبكنّ، كل هذا ومشاهد لأطفال فلذات أكبادنا لا يمكن نحتمل رؤيتها ممزقين، وأنينهم من الوجع في كل لحظة مازلت أسمعه يدوى في أذني، في مستشفى الشفاء المعاناة تحتاج إلى إنسان لا يحمل في جسده قلب كي يستطيع البقاء بها دون أن تنهمر دموعه.

استمرت معاناتنا حتى نقلونا إلى مدارس الإيواء، وكأن مشاهد التهجير و التشريد لا تأبى أن تفارقنا، الجبال لا تتحمل معاناة الفقد والنزوح، بيتي لم يغب عن تفكيري لحظة، عندما تم الإعلان عن وقف لإطلاق النار هرعت إليه، الحي بأكمله قد قلب رأس على عقب واختفت معالمه، كدت أفقد عقلي، أين البيوت التي كانت هناك والمساجد؟! أين الأشجار؟! البشر الذين كان يعج بهم الحي؟! كل شيء تغير لم يبقَ شيء على ما هو عليه، ليس لدينا الآن سوى الدعاء والتضرع إلى الله بأن تعود الحياة إلى ما كانت عليه.